وُلدت عناية حديب في بيروت، في لبنان، في 25 أيار/مايو 1983، وقضت سنواتها التكوينية وسط تعقيدات مدينة لا تزال مثقلة بآثار الحرب الأهلية اللبنانية. ورغم الصعوبات التي خاضتها، برزت ميولها الفنية باكرًا، لترسم لها مسارًا من البحث الإبداعي. في البداية، درست حديب الأدب الإنكليزي، لكن شغفها بالفنون الجميلة قادها إلى معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية.
غاصت حديب في عالم الفنون الجميلة، وكرّست ساعات طويلة لصقل مهاراتها، متعمّقة في تقنيات الرسم والتصوير، وأساليبهما. وتحت إشراف أساتذة وفنانين بارزين، مثل الدكتور فؤاد جوهر والدكتور محمد الروّاس، تعرّفت على الفروق الدقيقة في نظريات الألوان وتقنيات الطباعة، موسّعةً بذلك رصيدها الفني. وتخرّجت بمرتبة شرف من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية عام 2006، معلنةً انطلاقة مسيرتها الفنية.
واعتُبرت الفنانة والناقدة اللبنانية الأميركية هيلين الخال شخصية مؤثرة أخرى في مسار حديب الفني. ففي عام 2008، وأثناء عملها في صالة صفانا للفنون في فردان (Verdun Safana Art Gallery)، أُتيحت لحديب فرصة الإشراف على المعرض الاستعادي الأخير للخال قبل رحيلها. وعلى مدار شهرين تقريبًا، نشأت بين الفنانتين علاقة وثيقة، قضتا خلالها وقتًا طويلًا معًا، وتحديدًا في محترف الخال. وفي تلك الفترة، لم تكتفِ الخال بمشاركة حديب تقنياتها في مزج الألوان، بل منحتها أيضًا فهمًا أعمق لمعنى أن تكون فنانة - أو بمعنى آخر امرأة في مجال الفن - وكيفية مواجهة صعوبات الحياة، مستمدّةً من تجاربها الشخصية المريرة.
وفي العام نفسه، انتقلت حديب إلى هولندا حيث أسّست محترفها، مواصلةً تجاربها الفنية. ومن وحي جذورها اللبنانية، وتجاربها في وطنها الجديد، تجاوزت أعمالها الحدود التقليدية، جامعةً بين ملامح الواقعية المفرطة (Hyperrealism) ونزعة فن البوب آرت (Pop Art) الجمالية. أما خامتها المفضّلة، وهي طلاء الزيت على القماش، فتُعد بمثابة قناة توجّه استكشافها للذات، وتجلّياتها العاطفية. وتعكس أعمالها الفنية تقديرًا عميقًا لما تحمله المشاعر الإنسانية من تعقيدات، إلى جانب ديناميكيات المجتمع. وبدءًا بإعجابها المبكر بالفنان الهولندي بيتر بول روبنز (Peter Paul Rubens)، ووصولًا إلى تعمّقها في دراسات العصور الوسطى وتاريخ الفن، تكتسب أعمالها طابعًا متعدد الدلالات والسياقات التاريخية. وبتأثير من المهندس والفنان اللبناني إدغار مازجي، المتخصص في النسيج، ظلّ اهتمامها بالمساحات السلبية وخامة اللوحة جزءًا أساسيًّا من مسيرتها الفنية.
تتطرّق حديب إلى مواضيع وموضوعات متكرّرة، بما فيها الصور الشخصية (البورتريه)، والكلاب، والأغراض التي توقظ الحنين إلى الماضي، مثل علب حليب تاترا ونيدو المعروفة في البيوت اللبنانية. وتعتبر كل لوحة بمثابة "بورتريه ذاتي" يعبّر عن أفكارها ومشاعرها الداخلية. أما سلسلة Canine، وتعني الكلاب، التي قدّمت من خلالها لوحات لكلاب وذئاب غاضبة، فترصد قضايا اجتماعية. إنّ هذه السلسلة، المحمّلة بمقولات أجنبية، مثل "dog eat dog" التي تنوّه إلى شريعة الغاب، أو "survival of the fittest" التي تعني البقاء للأقوى، تعكس صراعات الفنانة الشخصية مع القلق الاجتماعي والإحباط. وشكّلت هذه الأعمال بالتالي وسيلة للتعبير عن ذاتها في لحظات شعرت فيها بالعجز أو سوء الفهم. ومع ذلك، فقد لامست السلسلة الكثير من المشاهدين بصدقها وعمقها العاطفي، إذ حاولت حديب، عبر أعمالها الفنية، سدّ الفجوة بين المشاعر الداخلية، والتصورات الخارجية.
ومن أبرز أعمالها أيضًا، نذكر سلسلة من 24 لوحة بالألوان المائية على الورق، محفوظة في مؤسسة رمزي وسائدة دلول للفنون (Ramzi and Saeda Dalloul Art Foundation)، توثّق من خلالها منتجات لبنانية قديمة، ودلالاتها الثقافية. وجاءت هذه السلسلة على خلفية فقدان شخصي وتحديات جائحة كوفيد-19، لتشكّل انعكاسًا رقيقًا لحالتها العاطفية. وتتميز إحدى أبرز أعمالها الفنية في السلسلة بتصوير واقعي لعلبة مستعملة من حليب نستله نيدو المجفف الكامل الدسم، بحيث رسمت العلبة بلونَي الأصفر والأحمر الزاهيَين، لكنّها حوّلتها إلى أصيص مزروع فيه الفلفل الأخضر الحار. كما يبرز النص باللغة العربية بوضوح على الملصق، مؤكدًا البُعد الثقافي والإقليمي الذي يحمله هذا العمل. أما الخلفية فبسيطة، وذلك ليصبّ كل التركيز على العلبة ومحتواها. إنّ هذه اللوحة تكشف براعة حديب في التصوير الدقيق والواقعي بالألوان المائية، فيما تعكس جوهر الحنين إلى الماضي، والذاكرة الجماعية.
أتاحت سلسلة الألوان المائية لحديب التعامل مع رحيل والدها، فيما واصلت التزامها بالتفاصيل والدقة تعبيرًا عن إخلاصها للأصالة. فدعت المشاهدين بذلك إلى إعادة التواصل مع بساطة الماضي. ومع ذلك، فإنّ معظم أعمالها مدفوعة برغبتها في الحفاظ على ما تحب، من أشياء وأشخاص، سعيًا منها لتخليدهم بطريقة أو بأخرى. وتصف نفسها بأنها شديدة الحساسية تجاه الفقد، مهما كان صغيرًا. فضلًا عن ذلك، قد فرضت على نفسها في هذه السلسلة من الألوان المائية أن ترسم كل شيء استنادًا إلى ذاكرتها بالكامل. وصحيح أنّها استعانت بمراجع بصرية لتتذكر لون معيّن على المنتج، أو بنط الخط، لكنها لم تستخدم أيّ مراجع لنسخ الصور. لذلك، تضمّن الكثير من الأعمال أخطاء في الشكل، أو كلمات ناقصة، أو عناصر مفقودة. وشكّلت هذه الخطوة جزءًا أساسيًّا من صدق تجربتها واعتمادها التام على ذاكرتها، مانحًا السلسلة لمسة أكثر طبيعية تتناغم مع نيتها في إبداعها.
حاليًا، تنشغل حديب بسلسلة صور شخصية (بورتريهات) مرتبطة بمشروعها المستمر Stories from B Town، الذي يسعى إلى توثيق جوهر مدينة بيروت عبر وجوه وأحداث مألوفة. فكل لوحة تشكّل قطعة من أحجية سردية، تدعو من خلالها المُشاهد للمشاركة في عملية السرد، ناسجةً بذلك خيوط الذاكرة والمخيّلة في آنٍ. وتبقى حديب مخلصةً لسعيها في حفظ اللحظات العابرة عبر الفن.
إنّ رحلة حديب الفنية تعكس التجارب في بيئة مثقلة بالحروب. وتشكّل أعمالها وسيلة لتوثيق وحفظ التعقيدات غير الكاملة للذاكرة البعيدة. وبين هواجس الهوية، والذاكرة، والتواصل الإنساني، تبتكر الفنانة لغةً تجمع بين تجربتها الشخصية والتجربة الإنسانية الجماعية. ولا تزال حديب اليوم تقيم في هولندا، وتعمل في محترفها الخاص.