ولد ألفريد طرزي، الفنّان اللّبنانيّ، في بيروت عام 1980. عُرِف بمقاربته المتعدّدة المسارات الّتي تشمل الرّسم، والتّصوير الفوتوغرافيّ، والكولاج الرّقمي، والنّحت، والتّركيبات الفنّيّة. يتوغّل فنّه في تاريخ لبنان المعقّد والمثقّل بالحروب. حاز إجازة في التّصميم الغرافيكي من الجامعة الأميركيّة في بيروت عام 2004، كما خضع لتدريب فنّيّ في مشاريع كرينزينغر Krinzinger Projekte في فيينا عام 2011، ما أسهم في بلورة صوته الفنّي المتفرّد، الّذي يتردّد صداه محلّيًّا ودوليًّا.
شاب طفولة ألفريد الصّراع، ولا سيّما في النّصف الثّاني من الحرب الأهليّة اللّبنانيّة (1975-1990). فأوائل ذكرياته قضَاها في إعادة تمثيل معارك الحرب في باحة المدرسة مع زملائه، على الرّغم من ارتياده مدرسة خاصّة مرموقة .
ويروي طرزي أيضًا أثر الحرب على تعلّمه الأبجديّة؛ ففيما كان أطفال في بلدان أخرى يتعلّمون حروفًا مرتبطة بصور بريئة وطفوليّة، تعلّم هو أنّ حرف الألف يرمز إلى كلمة "أبطال"، وحرف الباء إلى كلمة "بطل"، بصيغة المفرد. ويوظّف ألفريد هذه الاستعارات ليصف الأثر الجوهريّ الّذي تركته الحرب في داخله، إلى جانب ما خلّفته من دمار وخراب خارجيّ. هذه التّجارب، الّتي وثّقت حياته كطفل وسط الحرب الأهليّة اللّبنانيّة، تُشكّل رواية سرديّة يجيد ألفريد نقلها من خلال فنّه.
يتّسع الرّصيد الفنّي لطرزي ليشمل مجالات عدّة، يوظّف كلّ واحدة منها بعناية دقيقة لتفكيك الرّوايات التّاريخيّة وإعادة قراءتها بنظرة نقديّة. ففي صميم أعماله يكمن تفحّص عميق لذاكرة لبنان الجماعيّة، ممّا يتحدّى مصداقيّة التّوثيق التّاريخي وانتقائيّة آليّات الأرشفة. وبحكم نشأته خلال سنوات الحرب الأهليّة (1975-1990)، ينجح طرزي ببراعة في إحياء الأحداث التّاريخيّة عبر مزجٍ متأنٍّ ومدروس لعناصر من الماضي والحاضر، جاذبًا المُشاهدين إلى إعادة النّظر في الطّرق الّتي يُسجَّل بها التّاريخ ويُستذكَر.
تضخّم وطن، 2010 عمل تركيبيّ متعدّد الوسائط لألفريد طرزي، يتناول الأزمات الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة في لبنان. ومن أبرز سماته اعتماده الأوراق النّقديّة اللّبنانيّة كخلفيّة للأعمال، في إشارة إلى معضلة التّضخّم المستفحلة. يتكوّن التّركيب من كولاجات ضخمة الحجم، وصور من الأرشيف، ورسوم دقيقة، جُمِع كلّ منها بعناية ليُزاوج بين الرّوايات السرديّة التّاريخيّة والقضايا المعاصرة، عاكسًا تاريخ لبنان المضطرب وأثره في الحاضر.
يتناول طرزي في عمله :25llA المضيف الرّهينة، الوجود الفلسطينيّ في لبنان بعد عام 1967، محلّلًا ديناميكيّات نشاطات الفدائيّين الفلسطينيّين وردود الجيش اللّبنانيّ عليها، بما في ذلك "اتّفاق القاهرة" المحوريّ عام 1969. أمّا استخدام الأوراق النّقديّة كخلفيّة، فيُبرِز الضّغط المالي والتّشرذم السّياسي اللّذين فاقمتهما هذه الأحداث.
يُجسّد العمل:50llFفشل الحداثة، بدايات الحرب الأهليّة اللّبنانيّة عام 1975، عارضًا التّناقض بين الحركات اليساريّة والفصائل المسيحيّة اليمينيّة، ليُبرز تحوّل الصّراع من اضطراب اجتماعيّ وسياسيّ إلى نزاع طائفيّ مدمّر. في المقابل، يركّز عمل:50llAصرخة المقهورين، على الإهمال الاجتماعيّ والاقتصاديّ الّذي عانته الطّائفة الشّيعيّة في جنوب لبنان، موصّفًا حراكها عبر حركات مثل حركة «أمل» الّتي أسّسها الإمام موسى الصّدر.
إنّ استخدام الأوراق النّقديّة الّتي فقدت قيمتها كخلفيّة للعمل التّركيبي يُجسّد، بصورة مؤثّرة، الأثر المدمّر للتّضخّم وعدم الاستقرار الاقتصاديّ، ليغدو انعكاسًا للأزمات الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة الّتي تعصف بالوطن. ويدعو التّركيب ككلّ إلى التّأمّل في الطّبيعة الدّوريّة للعنف، وفي الآثار المستمرّة للصّدمات التّاريخيّة على المجتمع اللّبناني المعاصر.
من بين أعمال ألفريد طرزي أيضًا التّركيب الفنّي المتعدّد الوسائط المعنون عندما تبلغ الشّمس ذروتها ، 2012، الّذي يسلّط الضّوء على المناخ الاجتماعيّ والسّياسيّ في لبنان. يستند العمل إلى صور ونصوص من تاريخ لبنان المعقّد، بما في ذلك صور من الأرشيف، وموادّ عسكريّة، ووثائق سياسيّة، ليبني رواية سرديّة متداخلة. يتناول المشروع تقاطعات التّاريخ الشّخصي والوطنيّ، مستخدمًا هذه المرجعيّات لإبراز مواضيع متكرّرة مثل الوفاء والخيانة وثِقل الوعود. ويهدف هذا المزج بين السّياق التّاريخي والتّجربة الشّخصيّة إلى إثارة التّأمّل في الأثر المستمرّ للوعود في تشكيل الهويّات الفرديّة والجماعيّة. يدعو طرزي المُشاهدين، عبر صندوق من الفولاذ وأعمال متنوّعة على الورق، إلى الغوص في تاريخ لبنان وواقعه الرّاهن، مُحفِّزًا على تأمّل عميق في ماضي الوطن ومسار مستقبله.
من بين مشاريع طرزي البارزة أيضًا عمله العاشقان: لقاء وطنيّ، 2022، المُنجَز بتقنيّة الطّباعة الجيكليّة (Giclée print)، والّذي عُرِض في معرض الأمل في عصر الدّيستوبيا (المدينة الفاسدة) عام 2024 بتنظيم من قبل مؤسّسة رمزي وسائدة دلول للفنون. يمزج العمل، بصورة معقّدة، بين صور من الأرشيف ومشاهد معاصرة لاستكشاف الحكايات المتشابكة لجورجينا رزق، الّتي تُوّجت ملكة جمال الكون عام 1971 في سنّ الثامنة عشرة، وعلي حسن سلامة، المسؤول الأمنيّ السّابق في منظّمة التّحرير الفلسطينيّة في سبعينيّات القرن الماضي ، بما يحاكي المشهد الاجتماعيّ والسّياسيّ للبنان.
منطلقًا من التّواريخ الشّخصيّة لهذين الشّخصين، يتوغّل العمل في موضوعات الهويّة والذّاكرة والإرث المستمرّ للنّزاع. ومن خلال وصل العناصر التّاريخيّة بالحاضرة، يُبرز طرزي الأثر العميق والمستدام للأحداث الماضية على المجتمع اللّبنانيّ، فيما يلمّح أيضًا إلى إمكانيّات للمصالحة والتّفاهم المتبادل. وفي جوهره، يقوم العمل على الرّابطة الرّمزيّة بين العلاقة المأساويّة والجميلة في آن بين رزق وسلامة، كرمز للصّمود وسط المحن، ودعوة إلى التّأمّل في إمكانيّة الوحدة داخل الانقسام.
لم تمرّ إسهامات طرزي في الفنّ المعاصر مرور الكرام، إذ حظي بتقديرٍ لافتٍ على الصّعيدَيْن المحلّيّ والدّوليّ. من أبرز الجوائز الّتي نالها جائزة برينس كلاوس للإرشاد: الرّوايات السّرديّة المتحوّلة عام 2024، وجائزة الفنّ السّيادي (Sovereign Art Prize) عام 2016. كما قدّم محاضرات وورش عمل في مؤسّسات متعدّدة، ركّز فيها على موضوعات الذّاكرة، والتّوثيق التّاريخي، والحرب الأهليّة اللّبنانيّة، مثل تلك الّتي عُقدت ضمن FUTURE SENSE في أكاديميّة الفنون والتّصميم FHNW في بازل عام 2019، و TALK 20 في الجامعة الأميركيّة في بيروت عام 2016.
إلى ذلك، يُعدّ طرزي عضوًا في أتولييه هابستس Atelier Hapsitus، وهو تجمّع متعدّد التّخصّصات أسّسه المعماريّ نديم كرم، كما أنّه من المبادرين إلى تأسيس Feel Collective الهادف إلى تغيير أنماط التّفكير الثّقافي. تُقتنى أعماله ضمن مجموعات مرموقة، وقد عُرضت في أنحاء مختلفة من العالم، ما رسّخ مكانته كأحد المحرّكات الأساسيّة للفنّ المعاصر في لبنان.
يُشكّل فنّ ألفريد طرزي منفذًا مهمًّا لاستكشاف تاريخ لبنان العاصف وذاكرته الجماعيّة. فمن خلال إتقانه استخدام وسائط متعدّدة وأساليب روايات سرديّة متنوّعة، يقدّم قراءات نقديّة عميقة لدور التّاريخ في تشكيل الهويّة المعاصرة. يواصل طرزي إثارة التّفكير والتّأمّل، داعيًا الجمهور إلى مواجهة تعقيدات الماضي، وفي الوقت نفسه إلى تخيّل إمكانيّات لمستقبل أكثر تآلفًا.