وُلد هادي سي عام 1964 في بيروت لأب سنغالي، بحيث كان أول سفير سنغالي في الشرق الأوسط، وعالِم لاهوت بارزًا. أمّا والدته، فهي لبنانية تقدّمية تنتمي إلى عائلة عريقة من موظفي الدولة. هذا الفنان المتعدد الوسائط، الذي عاش في مرحلة ما بعد الحرب والحقبة المعاصرة، نشأ في بيئة متعدّدة الثقافات، متنقّلًا بين كل من بيروت، والقاهرة، وجدّة، وداكار. غير أنّ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية بين عام 1975 و1990، بالإضافة إلى وفاة والده حين كان في التاسعة من عمره، أجبَرا العائلة على العودة إلى بيروت. أنهى سي دراسته الثانوية وسط أجواء تعم بالفوضى، ثم التحق بكلية بيروت الجامعية، المعروفة اليوم باسم الجامعة اللبنانية الأميركية LAU، لدراسة فنون الاتصال عام 1984. وفي العام نفسه، غادر إلى باريس مع اندلاع "حرب المخيمات"، وهي إحدى النزاعات الفرعية الناتجة عن الحرب الأهلية اللبنانية المستمرة آنذاك. ونال سي درجة الماجستير في الوسائط البصرية من المدرسة الفرنسية للملحقين الصحفيين
École Française des Attachés de Presse (EFAP)، كما أكمل برنامج الدراسات العليا في العلوم السياسية في جامعة السوربون (Sorbonne University).
وفي عام 1988، أسّس سي "المهرجان الدولي لتصوير الأزياء International Festival of Fashion Photography (IFFP)"، الذي سرعان ما أصبح رائدًا عالميًا. وقد جال المهرجان مدنًا عدة حول العالم، جامعًا كبار الأسماء في مجال تصوير الأزياء والموضة، مثل المصمّمَين كارل لاغرفيلد Karl Lagerfeld، وجان بول غوتييه Jean Paul Gaultier، وعارضتَي الأزياء كيت موس Kate Moss، وناعومي كامبل Naomi Campbell. وشكّل عمله في تلك الفترة بداية مسيرة ناجحة في الفنون وتصوير الأزياء والموضة.
إلا أنّ مسار سي الفني شهد تحوّلًا من تصوير الأزياء إلى الفن المنخرط اجتماعيًّا. ففي عام 1996، انتقل إلى مدينة نيويورك، وبحلول عامه الثاني فيها، أصبح رئيسًا لاستوديو H Design. وتجدر الإشارة إلى أنّ سي كان أوّل فنان تشكيلي يشارك في المهرجان الدولي للتصوير الصحفي Visa Pour L’image. وخلال إقامته في نيويورك، تم تكليف سي بإعداد كتاب ومعرض للاحتفاء بالذكرى الأربعين لدار "إيڤ سان لوران Yves Saint Laurent". وتزامنت فترة إقامته الطويلة هناك مع الهجوم الإرهابي على برجَي مركز التجارة العالمي في 11 أيلول/سبتمبر 2001، وقد تركت هجمات 11 أيلول/سبتمبر أثرًا عميقًا فيه، ما دفعه إلى تحويل مساره الفني نحو معالجة قضايا اجتماعية وسياسية أكثر.
بعد ابتعاد سي عن مجال تصوير الأزياء، راحت أعماله تعكس مواضيع الحرب، والهوية، والحالة الإنسانية، التي كشفت في معظم الأحيان عن تداخل الصدمات الشخصية والجماعية. ثم تطوّر أسلوبه الفني ليعتمد الاستخدام المعمّق للوسائط المتعددة. فمن خلال الدمج بين التصوير الفوتوغرافي، والتصوير الشعاعي، والتحف الفنية، غالبًا ما استعان بصور رمزية من شأنها تحفيز الفكر والحوار. وكثيرًا ما اتّسمت أعمال سي الفنية بدقّة التنفيذ التقني. وفي عملَيه In God We Trust (2004)، ويعني "بالله نثق"، وNot for Sale (2009)، ويعني "غير مخصص للبيع"، يعكس الفنان آثار العنف وتناقضاته الأخلاقية، مستخدمًا صورًا مؤثرة لطرح تساؤلات حول أخلاقيات النزاعات وتسليع الحياة. ففي كتابه In God We Trust الثلاثي الأبعاد المتحرّك، الذي نشره بنفسه، يتناول مفارقة الإيمان والمال، معبّرًا عن تساؤلاته حول الحروب وتداعياتها الأخلاقية. أما Not for Sale، فهي سلسلة أعمال عُرضت عالميًّا، وتستند إلى وجهة نظر الفنان بأنّ فنّه هو سلاحه. وقد أُنجز هذا العمل بتكليفٍ من وزارة الثقافة الفرنسية، بحيث استخدم فيه صورًا شعاعية لجسمه، بالإضافة إلى صور بالأشعة السينية لـ35 بندقية، وذلك بهدف إبراز طبيعتها التدميرية، ودورة العنف المتواصلة. وشملت هذه البنادق تلك التي استُخدمت في أحداث تاريخية بارزة، لتؤكد الأثر العميق للأسلحة.
وإلى جانب أعماله التي اتْخذت طابعًا سياسيًّا واجتماعيًّا، أنجز سي عملًا عزيزًا على قلبه، عبّر من خلاله عن تجربة جماعية من وجهة نظر كفاح عائلي شخصي. إنّه عمل One Blood (2013)، الذي يعني "دم واحد"، وقد استلهمه من حاجة شقيقته يُمنى لنقل الدم بانتظام بسبب إصابتها بمرض فقر الدم المنجلي. وتمثّل الهدف من هذا العمل بتعزيز التوعية بأهمية التبرع بالدم. وعلى مدار أربع سنوات، عبَر سي مسافة 293 ألف كيلومتر تقريبًا، ملتقطًا صور 546 شخصًا من 79 دولة، وموثّقًا قصصهم ورسائلهم عن السلام. يرمز هذا المشروع إلى الإنسانية المشتركة والوحدة التي يجسدها فعل التبرع بالدم، وذلك في تناقض صارخ مع عمليات سفك الدماء في الحروب.
ومع ذلك، واصل سي إبداع أعمال تتناول قضايا معاصرة أكثر عمومية وصراعات إنسانية خالدة. وفي سلسلته Zero Dollar (2014-2017)، التي تعني "صفر دولار"، عرض صورًا وتحفًا فنية باستخدام أوراق نقدية بقيمة صفر دولار، بحيث صُمّمت لتشبه عملة الدولار الأميركي لكنها تحمل عبارة "صفر" بالعربية. واستعان في هذه الأعمال بمواد متنوعة كزجاج الأكريليك (plexiglass)، والتبن، والإسمنت. وتشمل أهم الأعمال الفنية لوحة ثلاثية تتضمن مبانٍ محطمة تظهر فيها ثقوب الرصاص، وأكياس نفايات ملوّنة مليئة بأوراق نقدية من فئة صفر دولار، وأعمالًا أيقونية مُعاد ابتكارها، بحيث ينتقد كلّ منها أوهام المال وآثاره على المجتمع. ومن خلال سلسلة الأعمال هذه، يحثّ سي المشاهدين على إعادة التفكير في قيمة الثروة، وآثارها الأخلاقية في حياتنا المعاصرة. ومن بين أعمال هذه السلسلة، نذكر عمل "الخوارزمي" Al Khawarismi (2015)، اُنجزت هذه المطبوعة بدقة عالية بحبر نفاث على ورق فني فاخر، ويبلغ قياسها 74 × 180 سم، أي ما يعادل عشرة أضعاف حجم ورقة الدولار العادية. وقد أعاد سي ابتكار الدولار الأميركي المألوف، مستبدلًا صورة جورج واشنطن برسم للخوارزمي، العالِم الموسوعي الذي عاش في القرن التاسع وعُرف بأنّه "أب الجبر"، وذلك تكريمًا لإسهاماته في الرياضيات الحديثة، لاسيما تثبيت مفهوم الصفر كرمز عددي. كما ساهمت ترجمة أعماله إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر في نقل هذه المفاهيم من الهند إلى أوروبا.
تدعو سلسلة Zero Dollar المُشاهد إلى مواجهة هوس المال، عبر تقديم ورقة نقدية منزوعة القيمة كصورة وغرض مادي في آنٍ، ناقدةً بذلك الهوس الرأسمالي بالثروة، ومسلّطةً الضوء على قيمة الثروة المادية الفارغة، وآثارها المدمّرة على المجتمع. ومن خلال مجموعة أعماله، يحثّ سي جمهوره على إعادة النظر في القيم المجتمعية، والسعي نحو عالم أكثر تعاطفًا وترابطًا.
وانتقالًا من سياق انتقاد القيمة النقدية، قدّم سي منحوتته الفنية Still Standing Always (2022)، وتعني ما زلت صامدًا، ضمن سلسلة أعماله "إنها لعبة أرقام It’s a Numbers Game " التي استمرت من عام 2022 حتى عام 2024. يبلغ قياسها 140 × 125 × 17 سم، وتتناول ظاهرة التجريد الشامل من الإنسانية بفعل العوامل السياسية، والاقتصادية، والتكنولوجية. يجسّد هذا العمل المتتالية الرقمية 911، للدلالة على هجمات 11 أيلول/سبتمبر، ورقم الطوارئ الأميركي (911)، وبرجَي مركز التجارة العالمي القائمين إلى يمين المنحوتة. ومن اليمين إلى اليسار، تُقرأ المنحوتة ككلمة "لله" بالعربية، مسلّطةً الضوء على عبثية الكارثة، واستمرارية أثرها. ويدعو هذا العمل المُشاهد على التفكير في اختزال الإنسان إلى مجرد رقم، وفي نهوض التطرّف الديني تاريخيًّا.
ومن خلال أعماله العالمية التي تتّسم برموز مؤثّرة، يتحدّى سي جمهوره لإعادة النظر في دور الفن في دفع عجلة التغيير. وبانتقال سي من تصوير الأزياء إلى الفن المنخرط اجتماعيًّا، تعكس مسيرته التزامه الراسخ باستخدام الفن كأداة للتغيير الاجتماعي، وتعزيز الوحدة والسلام. يُقيم هادي سي حاليًّا في بيروت، حيث يواصل إبداع أعمال فنية تحفّز التفكير، وتحاكي القضايا الاجتماعية الملحّة، بما فيها تداعيات انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس 2020، والأزمة الاقتصادية المستمرة في لبنان منذ عام 2019 حتى اليوم. وتقدّم أعماله قراءة معمّقة للحياة المعاصرة، داعيةً المُشاهد إلى إعادة النظر في القيم المجتمعية، واحتضان روح الترابط الإنساني.