"We don’t need more walls. We need more bridges. I paint to build them." — Chawky
شوقي فرين رسّام، ومؤلِّف، وأستاذ جامعي لبناني أمريكي، تتناول أعماله قضايا العدالة والديمقراطية وكرامة الإنسان. ترتبط لوحاته ارتباطًا وثيقًا بتجربته الشخصية مع الهجرة والصمود، إذ تحمل أعباء الحرب والتهجير، فيما تتمسّك في الوقت عينه بإمكانات الفن كمساحة للتعاطف والحقيقة. وُلد فرين عام 1960 في منطقة زحلة في لبنان، ونشأ في أسرة أولت قيمة للصمود، والتعليم، والانتماء للمجتمع. اشتهرت زحلة بكرومها، ونهرها، وإطلالاتها الجبلية، كما اعتُبرت مكانًا يتّسم بالتنوع الثقافي والديني. وقد انطبعت سنواته الأولى بالروابط العائلية والبيئة المتماسكة التي عمّقت لديه إحساس الانتماء والمسؤولية الجماعية.
حين اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، كان فرين لا يزال مراهقًا. وقد خلّفت سنوات الصراع هذه أثرًا عميقًا فيه، إذ تبدّلت تفاصيل الحياة اليومية تحت وطأة عدم الاستقرار، والعنف، والارتياب. وغالبًا ما وصف تلك السنوات بأنها تكوينية، ليس بصعوباتها فحسب، بل بما أضافته من عمق إلى وعيه حول معنى الصمود، والشهادة على الأحداث. ورافقته هذه التجارب حين هاجر إلى الولايات المتحدة عام 1981، باحثًا عن ملجأ ومستقبل في الفن على السواء. وقد أورثته محطات الحرب، والهجرة، والتأقلم حساسية دائمة تجاه معاناة الآخرين، وقناعةً بأن الفن يجب أن ينخرط في الحقائق الإنسانية لا أن يتهرّب منها.
درس فرين الرسم في كلية ماساتشوستس للفنون والتصميم، حيث نال بكالوريوس الفنون الجميلة عام 1985. وقد وفّر له البرنامج قاعدة كلاسيكية متينة، وعرّفه على تدريب تقني صارم في الرسم، والتشريح، والتكوين. وفي الوقت عينه، خاض نقاشات حول التمثيل والمعنى في الفن، ما دفعه إلى تعزيز التفكير النقدي في دوره كفنان. وأصبح الرسم بالتالي وسيلة للشهادة بالنسبة إليه، وهو منظور متجذّر أصلاً في ذكرياته عن لبنان. واصل بعدها دراسته في مدرسة تايلر للفنون في جامعة تيمبل، حيث حصل على ماجستير الفنون الجميلة عام 1988. وقد أمضى سنة تكوينية في روما ساهمت في تعميق انخراطه في الفنون الأوروبية والتاريخ، ما أرسى دعائمه في تقاليد الفن التصويري، وصقل وعيه بقوة الفن في مقاربة الحاضر.
ومنذ عام 2000، يدرّس فرين في جامعة جورج ميسون حيث يشغل اليوم منصب أستاذ للفنون. وقد أصبح التعليم جزءًا لا يتجزأ من ممارسته الرسم تمامًا. فهو يعلّم طلابه أن الفن لا يمكن فصله عن الحياة، وأن الإتقان التقني لا ينفصل عن الوضوح الأخلاقي. وفي قاعة الدرس، يشجّع الفنانين الشباب تأمّل العالم من حولهم عن كثب، وطرح الأسئلة الصعبة والمعقّدة، والنظر إلى أعمالهم كجزء من حوار إنساني أكثر شمولًا. ولم يُجسّد تكريمه بجائزة التميز في التدريس من الجامعة مهارته كمعلّم فحسب، بل تجلّى أيضًا في التزامه بالتوجيه الأكاديمي. فبالنسبة إلى فرين، التعليم حوار يساعد الطلاب على اكتشاف مساراتهم الخاصة، وفهم المسؤوليات التي تترتّب عليها.
إلى جانب التدريس، واصل فرين الكتابة عن الفن والممارسات المعاصرة. فلا تقتصر كتاباته على فهرسة الفنانين أو الاتجاهات الرائجة، بل تُحدد موقع الفن في سياق التحديات الأخلاقية اليوم. ويناقش أن الفن يجب أن يقاوم اللامبالاة، وأن يسلّط الضوء على كرامة الإنسان ومعاناته. وبالنسبة إليه، الكتابة عن الفن هي دفاع عن أهميته في تشكيل طريقة التذكّر، والتقدير، والتخيّل لدى المجتمعات.
إنّ لوحات فرين تعكس هذه القناعات. فأعماله تعتمد على تقاليد التصوير الكلاسيكي وتقنيات الظل والضوء (تقنية كياروسكورو chiaroscuro)، إلّا أنّه يستخدم الألوان الزيتية كخامة شاهدة، إذ إنّ طبقات الألوان، والخطوط المخدوشة، وضربات الفرشاة المتماسكة تخلق سطوحًا تحمل ثقل الذاكرة والمعاناة. وكثيرًا ما تظهر الشخصيات مشوّهة أو مُثخنة بالجراح، وقد صاغ ملامحها إلحاح الرسم بذاته. فملمس اللوحة يتحوّل إلى شهادة، مجسّدًا أثر التاريخ على الجسد.
وفي أحد أبرز أعماله المبكرة "صمتك، معاناتي Your Silence, I Suffer" (1989)، تظهر هذه المخاوف بوضوح. يعكس العمل المشغول بالزيت شخصيات متلوّية بألوان تبرز الكدمات، إلى جانب الأحمر القاتم، والأسود الرمادي. وتعبّر الأجساد الملتوية والأيادي المُقبضة عن الألم، فيما تبرز ضربات الفرشاة الكثيفة فوقها كأنها ثِقَل مادي. لا يتمحور العمل حول العنف وحده، بل حول الصمت: صمت الذين يشاهدون من دون أن يحرّكوا ساكنًا. وهنا، يصبح الرسم مواجهة مباشرة مع التواطؤ، مؤكدًا أن عدم التفاعل إزاء الظلم هو بحد ذاته شكل من أشكال الأذى.
وفي سلسلة أعمال لاحقة، واصل فرين هذا المسار البحثي. فقد تناول عمل Ecce Homo (2000 – 2002) موضوع الفناء والروحانية، فيما انشغل في عمل Missa Pro Pace (2007) بأسئلة السلام والمصالحة. وفي جميع هذه المشاريع، عاد فرين إلى الجسد البشري بوصفه الموقع الأساسي للذاكرة، والأثر، والقدرة على الصمود. فالجسد ليس مجرد تجريد، بل حضور ملموس موسوم بالتاريخ، حاملًا المعاناة والقدرة على التحمّل في آن.
يعيش فرين اليوم ويعمل في ولاية فرجينيا، حيث يواصل الرسم، والتدريس، والكتابة. لكنّه ما زال مرتبطًا بلبنان ارتباطًا وثيقًا، فيعود إليه متى استطاع، مستلهمًا من ذكرياته، ومناظره الخلّابة، ومجتمعاته. إنّ فنّه يعكس مسارًا شخصيًّا واهتمامًا أوسع، ألا وهو كيف يواجه الأفراد والمجتمعات العنف، وكيف يمكنهم الحفاظ على كرامتهم في وجه الظلم. والأهم من ذلك، تبرهن حياته وأعماله على إيمانه بأن الفن ليس مهربًا من الواقع، بل شكل من أشكال التعبير عن الحقيقة، وجسرًا بين البشر، وممارسة للأمل.